كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن كثير بسكون الكاف والباقون بالرفع.
ولما بين تعالى دعاءه بما هال أمره بين حال المدعوّين زيادة في الهول فقال تعالى: {خشعًا أبصارهم} أي: ينظرون نظر الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو شرّ حال، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأنّ الذل والعز يتبين في النظر والذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلًا مع هيبة يعرف منها ذلك كما قال تعالى: {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى:].
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين والباقون بضم الخاء ولا ألف بعدها وفتح الشين مشدّدة أمّا القراءة الأولى فهي جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدّم على الفاعل وحد تقول: تخشع أبصارهم، ولا تقول: تخشعن أبصارهم وأمّا القراءة الثانية فجاءت على لغة طيىء يقولون: أكلوني البراغيث قال الزمخشري: ويجوز أن يكون في خشعًا ضمير هم ويقع أبصارهم بدلًا عنه ا. ه. وتقدّم نظير ذلك في قوله تعالى في الأنبياء: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [الأنبياء:].
وجملة {خُشَّعًا أبصارهم} حال من فاعل {يخرجون} أي: الناس {من الأجداث} أي: القبور {كأنهم جراد} أي: في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض وصغارهم وضعفهم وتموّجهم يقال في الجيش الكثير المائج بعضه فوق بعض جاؤوا كالجراد وكالذباب {منتشر} أي: منبث متفرّق في كل مكان لكثرتهم لا يدرون أين يذهبون.
{مهطعين} أي: مسرعين مادّي أعناقهم {إلى الداعي} مصوبي رؤوسهم إليه لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذل وخضوع وصمت واستكانة هذا حال الكل، وأمّا الكافر فنبه عليه بقوله تعالى: {يقول} أي: على سبيل التكرار {الكافرون} أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة: {هذا} أي الوقت الذي نحن فيه لما نرى فيه من الأهوال {يوم عسر} أي: في غاية العسر والصعوبة والشدّة وذلك بحسب حالهم فيه كما قال تعالى في سورة المدّثر: {يوم عسير على الكافرين} [المدثر].
ولما فرغ من حكاية كلام الكافرين ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال تعالى: {كذبت} أي: أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل {قبلهم} أي: أهل مكة {قوم نوح} مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار، وأنث فعلهم تحقيرًا لهم، وتهوينًا لأمرهم في جنب قدرته تعالى.
فإن قيل: إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق؟ أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم {فكذبوا عبدنا} نوحًا عليه السلام على ماله من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة {وقالوا} زيادة على التكذيب {مجنون} أي: فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ.
{وازدجر} وهل هذا من مقولهم أي قالوا: إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى، وقالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين} [الشعراء:].
قال الرازي: وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدّمه وأيضًا يترتب عليه قوله تعالى: {فدعا ربه} وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته {أني} أي: بأني {مغلوب} أي: من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغًا في الشكاية وإظهار الذل العبودية؛ لأنّ الله تعالى عالمٌ بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه، وقال ابن عطية: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل: وهو ضعيف. {فانتصر} أي: أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم.
{ففتحنا} أي: بسبب دعائه فتحًا يليق بعظمتنا {أبواب السماء} أي: كلها في جميع الأقطار، وعَبَّرَ بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبوابًا تفتح وتغلق وقيل: هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى: {ففتحنا} بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف.
وفي الباء في قوله تعالى: {بماء} وجهان: أظهرهما: أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء {منهمر} أي: منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظمًا ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارجٌ عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يومًا.
{وفَجّرْنا} أي: صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا {الأرض عيونا} أي: جميع عيون الأرض ولكنَّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمَّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيونًا وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها.
{فالتقى الماء} أي: المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى: {على أمرٍ} أي: حالٍ {قد قدرِ} أي: قضى أي في الأزل وهو هلاكهم غرقًا بماء مقدّر لا يزيد قطرة ولا يهلك غير من أمرناه بإهلاكهم.
{وحملناه} أي: نوحًا عليه السلام تتميمًا لانتصاره {على ذات} أي: سفينة صاحبةِ {ألواح} أي: أخشاب نجرت حتى صارت عريضة {ودسر} جمع دسار ككتاب وهو ما تشدّ به السفينة من مسمار وحديد أو خشب أو من خيوط الليف ونحوها قال البقاعي: ولعله عبّر عن السفينة بما شرحها تنبيهًا على قدرته على ما يريد.
{تجري} أي: السفينة {بأعيننا} أي: محفوظة من أنْ تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات بحفظنا على مالنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء بأعين كثيرة ولا يغيب عنه أصلًا، وجوّزوا أنْ يكون جمع تكسير لعين الماء. وقوله تعالى: {جزاء} منصوب بفعل مقدّر أي أغرقوا انتصارًا {لمن كان كفر} وهو نوح عليه الصلاة والسلام أو الباري تعالى: {ولقد تركناها} أي: أبقينا هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة وقيل تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقاياها أول هذه الأمّة {آية} أي: علامة عظيمة على مالنا من العلم المحيط والقدرة التامّة {فهل من مدّكر} أي: معتبر ومتعظ بها وأصله مذتكر أبدلت التاء دالًا مهملة وكذا المعجمة وأدغمت فيها.
وقوله تعالى: {فكيف كان} أي وجد وتحقق {عذابي} أي: لمن كفر وكذب رسلي {ونذر} أي: إنذاري، استفهام تقرير فكيف خبر كان وهي للسؤال عن الحال والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفًا جميع ما في هذه السورة، والباقون بغير ياء وقفًا ووصلًا.
قال البقاعي: ولما كان هذا المفصل مما أنزل أول القرآن تيسيرًا على الأمّة نبه على ذلك بقوله تعالى: {ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: على ماله من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه وصفًا لنا {للذكر} أي: الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والتشريف والحفظ لمن يراعيه. قال ابن برجان: أنزلناه باللسان العربي ونزلناه للإفهام تنزيلًا، وضربنا لهم الأمثال، وأطلنا لهم في هذه الأعمار ليتذكروا الميثاقَ المأخوذَ عليهم، وقال القشيري: يسرّ قراءته على ألسنة قوم وعلمه على قلوب قوم وفهمه على قلوب قوم وحفظه على قلوب قوم وكلهم أهل القرآن وخاصته وليس يُحفظ من كتب الله تعالى عن ظهر قلب غيره. قاله المحلى. {فهل من مدكر} أي: معتبر ومتعظ بها وتقدم أصله.
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ذكر قصة عاد لأنها أعظم قصة جرت بعد قوم نوح فيما تعرفه العرب بقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
{كذبت عاد} أي: أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولهم هود عليه الصلاة والسلام في دعائه لهم إليّ وإنذاره عذابي {فكيف} أي: فعلى أي الأحوال لأجل تكذيبهم {كان عذابي} لهم {ونذر} أي: وإنذاري إياهم بلسان رسولي قبل نزوله، أي وقع موقعه.
فإن قيل: لِمَ لم يقل: فكذبوا هودا كما قال تعالى في قصة نوح: {فكذبوا عبدنا} أجيب: بأنّ تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم وإمّا لأن قصة عاد ذكرت مختصرة.
ثم بين عذابهم بقوله تعالى: {إنا أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة. {عليهم ريحًا} وعبر بحرف الاستعلاء إعلامًا بالنقمة، ثم وصف الريح بقوله تعالى: {صرصرًا} أي: شديدة الصوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوت، وقيل: الشديدة البرد من الصر، وهو البرد، وقال مكي: أصله صرّر من صرَّ الشيء إذا صوت لكن أبدلوا من الراء المشدّة صادًا وهذا قول الكوفيين وقال الرازي: الصرصر: الدائمة الهبوب، من أصر على الشيء إذا دام وثبت.
وأكد شؤمها بذم زمانها فقال تعالى: {في يوم نحس} أي: شديد القباحة قيل: كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر وهو شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب شمس الأربعاء آخره، فإنه قال تعالى في سورة الحاقة: {سبع ليال وثمانية أيام حسومًا} وقال تعالى في حم السجدة: {في أيام نحسات} [فصلت:].
فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان، وقوله تعالى: {مستمر} أي: دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه، هذا وصفها في ذاتها.
وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى: {تنزع} أي: تأخذ {الناس} أي: الذين هم صور لاثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض: بعضهم من وجهها، وبعضهم من حُفَرٍ حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم.
وقوله تعالى: {كأنهم} أي: حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم {أعجاز نخل} أي: أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله: {منقعر} صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال: {نخل خاوية} [الحاقة:].
باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل: وإنما ذكَّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي: ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى: {والنخل باسقات} [ق:].
وذلك حال عنها وهي كالوصف، وقال تعالى: {نخل خاوية} [الحاقة:].
و {نخل منقعر} فحيث قال: منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاوي والباسق فاعل، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى: تقول: امرأة قتيل، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.